تتسم الأجواء في المرحلة الراهنة بالحراك السياسي المحتدم والمخاض الحزبي المتصاعد، استعدادًا لخوض انتخابات تشريعية جديدة، تشكّل اختبارًا حقيقيًا لقدرة الأحزاب على تجديد خطابها، وإعادة ترتيب صفوفها، وتقديم برامج تعبّر عن واقع المواطن، وتحديات الدولة.
ومع كل انتخابات تشريعية، تتجدد آمال المواطنين في التغيير والإصلاح، وتتاح أمامهم الفرصة لاختيار من يمثلهم تحت قبة البرلمان، وفي خضم زخم الشعارات والوعود، تبرز أهمية الوعي في عملية الانتقاء؛ فالصوت أمانة، والاختيار مسؤولية لذا، لا بد من النظر إلى الكفاءة، والنزاهة، وبرامج العمل الواقعية، بدلاً من الاعتبارات الضيقة أو الوجوه المتكررة، فالصوت يرسم ملامح الغد.
ومن ذلك المنطلق، وتأسيسًا على المرتكز التنويري، وجب القاء الضوء، على الأحزاب القائمة في البلاد، ومدى فاعليتها وجدارتها، من خلال اعتبارها جسدًا ماديًا، وإخضاعه للتحليل الشامل الكامل، للخلوص لنتائج، تعين على حُسن اختيار من يمثلون الشعب في البرلمان.
وأود أن أعتذر بدايةً عن الإطالة، إذ تقتضي طبيعة الموضوع وأهميته، التطرق إلى جوانبه المختلفة بشيء من التفصيل، حرصًا على الإحاطة الشاملة.
تُعتبر الأحزاب جزءًا أساسيًا من الحياة السياسية في معظم دول العالم، وتلعب دورًا محوريًا في تنظيم وتوجيه الأنشطة السياسية داخل المجتمع، وميلادها لا يكون وليد اللحظة، لكن نتاج لعوامل تاريخية، واجتماعية، وإيديولوجية، وقد نشأت في مصر في بدايات القرن العشرين، ومرت بعدة مراحل رئيسة، نجملها فيما يلي:-
المرحلة الأولى (ما قبل الثورة 1919)، شهدت تأسيس الحزب الوطني في عام 1907 على يد مصطفى كامل، والحزب الدستوري الذي أسسه محمد فريد، ذات العام.
المرحلة الثانية (فترة ما بعد ثورة 1919)، تأسس خلالها حزب الوفد عام 1919 على يد سعد زغلول، والحزب الشيوعي المصري
المرحلة الثالثة (الحقبة الناصرية)، بعد ثورة 1952، تم إلغاء الأحزاب السياسية بشكل رسمي عام 1953، واعتمد نظام الكيان السياسي الواحد، المتمثل في الاتحاد الاشتراكي العربي.
المرحلة الرابعة (الحقبة الساداتية)، تم السماح بعودة الأحزاب السياسية، وإعادة إحياء الحزب الوطني، وظهرت أحزاب مثل التجمع، والعمل.
المرحلة الخامسة (ما بعد أحداث 25 يناير 2011)، ظهرت أحزاب جديدة ومؤسسات سياسية متعددة، مثل الأحزاب التي تمثل التيارات الدينية، كحزب الحرية والعدالة (الذي أسسته جماعة الإخوان المسلمين) وحزب النور (الذي يمثل التيار السلفي) وأحزاب ليبرالية واشتراكية عديدة.
المرحلة السادسة (مرحلة ما بعد ثورة 30 يونيو 2013)، تشكلت خلالها أحزاب جديدة، بينما انقسمت بعض الأحزاب القديمة إلى تيارات مختلفة، في حين تم حظر الأحزاب المنتمية لجماعات مصنفة إرهابية، وتمثل الأحزاب والكيانات السياسية القائمة، تيارات ليبرالية، يسارية اشتراكية، وسطية، تقدمية، دينية إصلاحية، والأقوى تأثيرًا تلك المساندة لمؤسسات الدولة.
ولكي نتمكن من التحليل والتمحيص، يلزم الإشارة إلى أن أهم مقومات إنشاء حزب سياسي، وتتمثل فيما يلي:
1. الأيديولوجيا أو المبادئ الأساسية، يجب أن يكون لدى الحزب رؤية واضحة، تحدد أهدافه ومبادئه السياسية، ويقدم حلول للمشاكل التي تواجه المجتمع.
2. التنظيم الهيكلي، يحتاج الحزب إلى هيكل تنظيمي جيد، يشمل وجود قيادة واضحة، ولجان داخلية، وأعضاء نشطين، ومنهجية تنظيمية مثل القوانين الداخلية.
3. قاعدة شعبية، يجب أن يمتلك قاعدة من الأعضاء والمناصرين، ودعم شعبي قوي يعزز من قدرة الحزب على التأثير.
4. برنامج انتخابي، أن يكون لدى الحزب برنامج انتخابي واضح، يطرح الحلول للمشكلات، وأن يكون واقعيًا وملموسًا.
5. التسجيل القانوني، يجب أن يتبع الحزب الإجراءات القانونية اللازمة، من أجل الاعتراف به رسميًا.
6. التمويل، يحتاج الحزب إلى مصادر تمويل، وبالطبع لا بد أن تكون من مصادر مشروعة ومعروف.
7. استراتيجية الإعلام والاتصال، يلزم توافر وسائل فاعلة للتواصل مع الجمهور، سواء التقليدية أم الرقمية.
8. الالتزام بالقوانين، يجب الالتزام بالقوانين، والأنظمة الوطنية والدولية، المتعلقة بالأحزاب السياسية والعملية الانتخابية.
9. القدرة على بناء التحالفات السياسية، وذلك مع أحزاب أو جماعات سياسية، أخرى لتحقيق الأهداف المشتركة.
ومن أهم مرتكزات تأسيس الأحزاب السياسية، ألا يتم إنشاؤها على أسس تمييزية، سواء كانت دينية، عرقية، طائفية، أم حتى جهوية، لما لذلك من خطورة كبيرة على النظام السياسي والاجتماعي، ويساهم في تدهور التعايش السلمي والوحدة الوطنية، ويكرس للانقسام والتفتيت.
وبعد أن وقفنا على نبذة تاريخية عن نشأة الحياة الحزبية، ومقومات إنشائها، حان الآن موعد الجانب التخيلي، في مقالنا المسطور، تخيلوا معي أن كل حزب سياسي، ما هو إلا مرشح للالتحاق بعمل ما، يستلزم خضوعه لعدة اختبارات وتحاليل، تثبت سلامته وجدارته، وأنت عزيزي القارئ ستلعب دور الطبيب القائم بالفحص الإكلينيكي، وفي ضوء النتائج ستقرر مدى أهليته وكفاءته لشغل العمل، ولنبدأ الفحوصات.
التحليل الفسيولوجي: وهو المعني بدراسة وظائف وعمليات الأعضاء والأنظمة الحيوية، والتكيف مع البيئة، وتفاعلات الأعضاء الداخلية، وهنا يُسأل الحزب، عن قاعديته وهيكله التنظيمي، وعن طبيعة أعضائه ووظيفة أو دور كل منهم داخل الحزب، وهل هم مموِلون فقط، وباحثون عن الحصانة والوجاهة الاجتماعية، أم فاعلون وذوي مهام واضحة محددة؟؟؟
التحليل الإيديولوجي: وهو المعني باستبيان الأفكار والمعتقدات والقيم، التي تشكل رؤية أو نظام فكري ينظم ويحدد طريقة فهم الأشخاص للعالم من حولهم، ويؤثر في مواقفهم واتجاهاتهم وسلوكهم، ومن ثم يُطالب الحزب بالكشف عن توجهاته الفكرية، أهو ليبرالي رأسمالي، اشتراكي، يساري، شيوعي، تقدمي، ذو أساس ديني إسلامي أو مسيحي، أم غير ذلك؟؟؟
التحليل الإثنولوجي “العرقي”: ويُقصد به تصنيف الناس بناءً على خصائص وراثية، ثقافية، أو تاريخية مشتركة، مثل اللون، العرق، اللغة، أو الأصل الجغرافي، وفي ذلك التحليل لا بد من التدقيق الشديد، واستيضاح ما إذا كان الحزب منشأ على أسس عرقية، هل هم ممثلون لأبناء الصعيد، أهل الوجه البحري، قبائل بدوية، أهل المدن الساحلية … الخ؟؟؟ وإن كان الرد إيجابًا، يُرفض على الفور، لخطورته على الوحدة الوطنية ولُحمتها.
التحليل السيكولوجي “علم النفس”: ويهدف إلى فهم كيف يفكر الأفراد، ويشعرون، ويتصرفون في مواقف مختلفة، وكيف تؤثر العوامل البيئية والوراثية في تشكيل الشخصية والسلوك، وهنا يفحص الطبيب حالة الحزب، من حيث قدرته على التآلف وقبول الأغيار، وما إذا كانت لديه نظرة استعلائية على من سواه من الكيانات السياسية الأخرى، أو حتى الدولة ومؤسساتها.
ولعلك عزيزي القارئ أو الطبيب المؤقت، تتطلع إلى نتائج التحليل، وصولاً إلى تحديد مدى جدارة الحزب، بشغل مقاعد البرلمان، والاضطلاع بمهام التشريع وممارسة الرقابة على أعمال الحكومة، وغيرها من الممارسات النيابية.
وارتكازًا على ما سطرناه فيما سبق، تكون أيها القارئ المعني وحدك باستقراء نتائج التحليل، واستنطاقها وفق معتقداتك السياسية، ومستهدفاتك، متسلحًا باللاءات الأربعة؛ لا للحزب الجيلاتيني القوام بلا هيكلية وتنظيم ومهام واضحة لأعضائه، لا للحزب عديم الهوية الفكرية الآكل على كل الموائد، ولا للحزب المؤسس على مرتكزات عرقية أو جهوية بلا مصادر تمويل واضحة، ولا للحزب المستعلي على من سواه من كيانات.
والله من وراء القصد .. وتحيا مصر شعبًا وقيادة،،،
لواء/ يحيى عبد الكريم