تمثل اللغة العبرية، منذ عقود، ركنًا رئيسيًا في دراسات الشرق الأوسط واللغات السامية داخل الجامعات المصرية، خصوصًا في كليات الألسن والآداب. وعلى الرغم من حساسياتها السياسية، إلا أن تدريس العبرية كان دائمًا يُنظر إليه من منظور أمني وثقافي ومعرفي، يهدف إلى فهم “الآخر” الإسرائيلي، وتحليل مجتمعه، وتتبّع إنتاجه الإعلامي والفكري، ضمن مقاربة علمية خالصة.
إلا أن السنوات الأخيرة شهدت تراجعًا ملحوظًا في الإقبال على تعلم العبرية، وتصاعدًا في حملات التشكيك في أهمية تدريسها. بين الاتهامات بالتطبيع، ومخاوف التوظيف السياسي، والتحديات الاقتصادية التي تعصف بالجامعات، أصبح السؤال مشروعًا: هل أصبح تعليم العبرية في مصر في خطر؟
للإجابة عن هذا السؤال، تحاورنا مع الأستاذ الدكتور أحمد حسنين عبد المقصود حسنين، أحد أبرز المختصين العرب في تدريس العبرية، وصاحب مسيرة ثرية تجمع بين الحقل البحثي والأكاديمي، والإعلام، والترجمة.
خاض تجربة فريدة في تدريس العبرية ليس فقط في مصر، بل أيضًا في والولايات المتحدة الأمريكية والإمارات العربية المتحدة، حيث كان أول من دُعي رسميًا لتدريس العبرية للدبلوماسيين والضباط والموظفين الحكوميين.
كما ساهم في ترجمة معتمدة للقرآن الكريم إلى العبرية، وله مؤلفات متعددة، ومئات الحلقات الإعلامية حول الشأن العبري.
وإلى نص الحوار
ما تقييمك لحالة تعليم اللغة العبرية في مصر اليوم؟
الوضع أصبح مقلقًا بصراحة. هناك تراجع ملحوظ في عدد الطلاب الراغبين في دراسة العبرية، وتقلص في الدعم المؤسسي لهذا التخصص. السبب لا يعود فقط إلى السياسة أو المزاج العام، بل أيضًا إلى غياب التوعية بأهمية العبرية كأداة للفهم والتحليل. نحن أمام لغة تُدرّس في جامعات كبرى حول العالم باعتبارها مفتاحًا لفهم الشرق الأوسط، في حين أن بعض قطاعاتنا الأكاديمية، بل والمجتمعية أيضا بدأت تنظر إليها كعبء أو خطر، وهو تصور خاطئ وخطير.
برأيك، هل التراجع مرتبط فقط بالمواقف السياسية؟
السياسة لها دور، لكنها ليست السبب الوحيد. هناك من يخلط بين تدريس العبرية كعلم لغوي وثقافي، وبين التطبيع السياسي. أنا شخصيًا كنت دائمًا واضحًا في موقفي: أُعلّم العبرية لأجل فهم إسرائيل، نقدها، تحليل خطابها، وفهم كيف ترى العرب والمسلمين. هذه المعرفة قوة، وليست خيانة.
هل تعرّضت لمضايقات بسبب تخصصك في العبرية؟
في بداياتي، نعم، عانيت كثيرا من التنمر، وأطلق عليّ بعض الأصدقاء لقب الجاسوس، واجهت نظرات الشك، وحتى مضايقات ضمنية. لكن مع مرور الوقت، وبفضل الأعمال التي قدمتها في الإعلام والأكاديمية والترجمة، بدأ الناس يدركون أن تعلم العبرية ليس جريمة، بل ضرورة. كيف يمكننا نقد الآخر إن كنا لا نفهم لغته؟
حدّثنا عن تجربتك في الإمارات بعد اتفاقية أبراهام.
كانت تجربة نوعية في الحقيقة. بعد توقيع اتفاقية أبراهام، تم التواصل معي من قبل إحدى المؤسسات التي تعاقدت بشكل مباشر مع الحكومة الإماراتية لتعليم وتدريب الكوادر الحكومية التي ستعمل على تنفيذ بنود الاتفاقية والمشروعات المشتركة. خلال هذه الرحلة التي استمرت لنحو أربعة سنوات قمت بتدريس العبرية لدبلوماسيين وموظفين حكوميين من وزارات الدفاع والشرطة والسياحة والتجارة والصحة وشركات القطاع الخاص. الدورات لم تكن لغوية فقط، بل أيضًا ثقافية وتحليلية. شعرت أنني أؤدي دورًا في بناء مساحة فهم متبادل قائمة على المعرفة، لا على الأيديولوجيا.
مشروع “لغة قوم” الذي أطلقته خلال كورونا كان ملفتًا جدًا… كيف وُلد؟
الفكرة جاءت من شعور بالمسؤولية. كنت أتلقى عشرات الأسئلة يوميا عبر وسائل التواصل الاجتماعي من دارسي العبرية والباحثين في العالم العربي. خلال عزلة كورونا، فكرت: لم لا نجمع شمل كل هؤلاء في مساحة تعلم مشتركة؟ أنشأت صفحة لتعليم العبرية للعرب، والعربية للإسرائيليين، باسم “لغة قوم”، وكان الحضور مفاجئًا: من مصر، الأردن، المغرب، فلسطين، سوريا، العراق، البحرين، السعودية، وحتى كان هناك إسرائيليون شاركوا في الحضور. المشروع استمر ثلاث سنوات (2019–2022) وساهم في خلق لغة تواصل إنسانية، بعيدًا عن الخطابات الرسمية.
وماذا عن مساهمتك في ترجمة القرآن للعبرية؟
تشرفت بأن أكون من ضمن فريق العمل الذي أنجز أول ترجمة عربية معاصرة للقرآن الكريم إلى العبرية، بإشراف وموافقة من الأزهر الشريف. كان الهدف تصحيح الكثير من الترجمات السابقة التي قام بها مستشرقون يهود والتي حرّفت المعاني، وتقديم نص يحترم الإسلام ويعكس رسالته. وقبل العمل على هذا المشروع تلقيت اتصالا من أستاذي الأستاذ الدكتور سعيد عطية علي العميد السابق لكلية اللغات والترجمة، وعضو المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية طلب مني الانضمام له وللدكتور علي أبو هاشم عنان للعمل على ترجمة معتمدة لمعاني القرآن الكريم، وقد كان. أنهينا الترجمة في أقل من عام، وصدرت الترجمة في أبريل من عام 2023.
هل ترى أن مستقبل تعليم العبرية في مصر مهدد؟
إن لم نتحرك الآن، نعم. التعليم الأكاديمي بحاجة إلى دعم رسمي ومجتمعي، وإلى خطاب عقلاني يوضح الفرق بين اللغة والسياسة. من دون تعليم العبرية، نخسر القدرة على قراءة إسرائيل من داخلها، ونفقد أدوات التحليل المعرفي الضرورية لأمننا الثقافي والاستراتيجي.
ما رسالتك للطلاب الذين يفكرون في دراسة العبرية؟
تعلموا اللغة لا لتتحدثوا بها، بل لتفهموا من يتحدث بها. لا تخشوا الاتهامات، بل واجهوها بالعلم والموقف الواضح. اللغة سلاح معرفي، ومن يتقن العبرية يعرف أين يقف عدوه، وكيف يفكر، وما يريد.
والدكتور أحمد حسنين عبد المقصود حسنين، أكاديمي مصري، حاصل على الدكتوراه في اللغة العبرية والدراسات الإسرائيلية، عمل أستاذًا للعبرية في عدد من الجامعات المصرية والخليجية، وشارك في تدريس اللغة في أكاديمية أنور قرقاش الدبلوماسية بالإمارات.
عمل في مؤسسات إعلامية بارزة مثل التلفزيون الروسي، التلفزيوني السعودي، قناة أبو ظبي، شبكة بث الشرق الأوسط الأمريكية.
كما ألّف أربعة كتب عن اللغة العبرية الحديثة واتجاهات الأدب العبري، وترجم 16 مؤلفًا من العربية إلى العبرية، أبرزها في مجال التقارب بين الأديان.
وشارك في أول مشروع عربي معتمد من الأزهر الشريف لترجمة القرآن الكريم إلى العبرية، وأطلق مشروعًا فريدًا خلال جائحة كورونا باسم “لغة قوم” لتدريس العبرية للعرب بمشاركة مئات الدارسين في العالم العربي.