في فجر ليلة الأربعاء، الموافق 5 يونيو 2024، هاتفني شقيقي «الأقرب إلى قلبي»، ليردد كلمات تامات غير قابلة للبس: «خالد، تعيش إنت، أبوك مات»!.. بتقول إيه، مات؟، مش فاهم، تقصد مش بيرد عليك؟ جاءت له غيبوبة يعني؟، ألو، رد، حصل إيه؟.. أغُلق الهاتف في وجهي وأغُلقت معه الحياه!.
حينها، أصيب عقلي بشلل تام، ماذا أفعل؟، أحاول مرات ومرات معاودة الاتصال، لعلي أفهم، لكني أفشل في كل مرة.
انتفضت زوجتي العزيزة من نومها وخرجت مُسرعة، ففي هذا التوقيت كنت في مكتبي أمارس طقوس عملي المعتادة، حاولت تهدئتي، لم أبال بمن حولي، هرولت أبحث عن مفاتيح سيارتي، وهاتفي المحمول دون الاهتمام بأي شئ آخر، لم أرتد ملابسي أو حذائي، لم أصفف شعري، ولم أنتظر حتى المصعد الكهربائي، استقليت سيارتي، أملا في إنقاذ ما يمكن إنقاذه!.
المشهد الأول
حاولت تجاوز السيارات، اخترقت الحواجز الأمنية، سرت بسرعة جنونية، هاتفني أحد الأصدقاء، اطمئن يا خالد، أنا هناك، في نبض، عضلة القلب لم تتوقف، إذا بي أردد «الحمد لله، خذه فورا على مستشفى عين شمس التخصصي، وأنا جاي في الطريق»..
ولعين شمس التخصصي، معزة خاصة في قلبي، كنت دائم التردد عليها إبان مرض والدتي العزيزة رحمة الله عليها، ولدي علاقات طيبة مع الأطباء والعاملين فيها وعلى رأسهم الدكتور هشام أنور، المدير الحالي للمستشفى.
رد صديقي: «طيب تعالى بس إنت، وإن شاء الله يكون كويس، قدامك أد إيه».. «دقائق بالضبط وأكون عندك»..
عاد الأمل من جديد، وردت الروح للجسد بعد رحيل!
المشهد الثاني
بمجرد وصولي للمنزل، قابلني صديقي بصوت منخفض، خالد شد حيلك، البقاء لله، سارعت على غرفة والدي، أمسك بيده وأتركها، تسقط، أضع يدي على صدره، لم أجد نبضا، فمه مفتوح ولم يستطع غلقه، أبي، ماذا أصابك؟، هاتولي الطبيب فورا..
جاء الطبيب المعالج بعد دقائق معدودة، ولا يزال الأمل عالقا في نفسي، مارس عمله المعتاد، أصدر أوامره بإطفاء أنور المنزل، سلط إضاءة هاتفه في عين أبي، ونحن نترقب وندعو في دواخلنا، يا رب سلم. إن شاء الله تكون مجرد غيبوبة.
بعدها قام الطبيب بعمل جلسات تنفس يدوي، وضع يده على المنطقة الصدرية وضغط عليها بقوة، بهدف دفع الهواء إلى رئتيه.
لم ينجح الطبيب في أي من هذه المحاولات، لقد كتب الله كلمته، وخرجت الروح من الجسد وصعدت إلى بارئها..
المشهد الثالث
كانت كلمات الطبيب كالصاعقة، لن أنساها ما حييت، «مش محتاج يروح مستشفى، مافيش أمل»، انتابتني حالة من الصمت المصحوب بالعجز، فلم يكن والدي مريضا ولم يذهب إلى أي مستشفى من قبل، ماذا أفعل، ليس بيدي شيء، كنت صامتا، أسمع كلمات من حولي، دون رد.
كان المنزل مليئا بالأقارب والأحبة، منهم من سارع إلى غلق فمه بربطه مع الرأس، ومنهم من استحضر غطاء ليضعه على جسده بالكامل، وآخرون ذهبوا لإحضار المدفن والمُغسل وفتح المقابر وغيره..
المشهد الرابع
تمسكت بحضور الغُسل رغم محاولات إبعادي، كانت التجربة الأولى، لم أحضر غُسل ميت من قبل، وأي ميت، إنه أبي. في تلك اللحظات، تحاصرك المواقف والذكريات، الأفراح والأحزان، النصائح والأمنيات، الدعوات والصلوات، حتى لحظات الغضب والخوف، أصوات أبي في أذني لا تتوقف، كله يطاردني، لا يفارقني أبدا، إنها اللحظات الأخيرة التي أراه فيها..
يقولون إن الميت يسمع ويفهم كل ما يحيط به في الساعات الأولى من الموت، يرى العلماء أن الميت خلال هذه المدة الوجيزة، يشعر إنه سجين داخل جسده، يسمع ويشعر بكل شيء من حوله، رغم توقف عضلة القلب!
قبلت قدميه ورأسه ورددت كلمات في أذنه: «سامحني يا أبي، سامحني إن قصرت، ربي وحده الأعلم بما أحمله لك في نفسي».
لم يكن أبي ذو الـ 80 عاما، شخصا عاديا، كان صبورا حمولا دؤوبا، مستقبلا للابتلاءات بنفس راضية مستقيمة، محافظا على الصلوات في المسجد، حاضرا للدروس والخطب.
كان أبي – رحمة الله عليه – متوازنا في تديّنه، من غير تطرّف أو تعنيف، متوازنا في إنفاقه، من غير تبذير أو تقتير، محبا لوطنه، شديد الإخلاص لأهله وأسرته.
علمني والدي، كيف أصبح مسؤولا، تركني أغوص في الأزمات، كي تخلق مني رجلا..
كان دائما يتركني في اختياراتي، قراراتي، حماقاتي، وحين أسقط، أجده داعما مساندا لا يتركني أبدا في مهب الريح.
سيبقى رحيلك يا أبي، غصة في قلبي إلى أن ألقاك..
يقولون أن الرجل يظل طفلاً صغيرا حتى تموت أمه، وفي تقديري أن الرجل يظل ولدا حتى يموت الأب، ويصير شيخا كبيرا .
صعبة هي الحياة، التي نعجز فيها عن إنقاذ أرواح أعزاء لدينا.
صعبة هي الحياة، التي يطالبوننا فيها بالصمود والصبر بما يفوق قدراتنا .
صعبة هي الحياة، التي نعيش فيها في انتظار ما تخفيه أقدارنا.
عزائي الوحيد، أن الآباء لا يرحلون عن عالمنا عند موتهم، فالآباء هم المعلمون الذين ينيرون طريقنا، هم البوصلة التي تهدينا إلى الطريق الصحيح، تبقى أفكارهم وتعاليمهم عالقة في أذهاننا لا تفارقنا، وسيرثها أبناءنا بعد خروج الروح من الجسد.