في اللغة العربية، تنبض الكلمات بحياة تتجاوز حدود القواميس، ومنها كلمة الجبهة؛ هذه الكلمة التي تحمل في طيّاتها قوة اللفظ وعمق المعنى، فالجبهة في معناها اللغوي هي الجزء الأعلى من الوجه، ما بين الحاجبين إلى منبت الشعر.
أما في الاصطلاح، فالجبهة” تكتسب معاني متسعة وفق السياق، فهي تُستخدم في وصف مواقع القتال والصراع، كما في جبهة القتال، وهي تُطلق على التحالفات السياسية أو العسكرية كما في جبهة التحرير، وتُستعمل في وصف المواقف الحادة، كالجبهة الفكرية، أو الجبهة الإعلامية.
وجمع جبهة يجيء على صورتين: جِباه، عندما نقصد الجزء من الوجه، وجبهات، عندما نستخدمها في المعاني الاصطلاحية الواسعة، السياسية أو العسكرية أو الاجتماعية.
لكن ما بين هذه الأبعاد اللفظية والاصطلاحية، ينبثق معنى معنوي أعمق، حيث تتحول الجبهة إلى رمز خالد، لعزة النفس وكرامة الإنسان، فالجبهة العالية المستقيمة، التي لا تنحني إلا لله، تُمثّل موقفًا وجوديًا، لا مجرد مَعْلم في الوجه. فمن انحنى جبينه للظلم، خسر شيئًا من إنسانيته، ومن ارتفع بجبهته في وجه القهر، بات رمزًا للعزة والمقاومة.
ولعل أقوى تجليات هذا المعنى تتجسد في مشهد السجود؛ حيث لا يُلامس الجبين الأرض إلا خضوعًا لله وحده، فيتحوّل موضع الجبهة إلى تاج من نور، لا إلى موضع ذل.
وتتداخل القداسة بالعزة، وتغدو الجبهة عنوانًا للحرية، لا لعلامات الانكسار، وهكذا تظل الجبهة في اللغة وفي الحياة، أكثر من مجرد موضع في الوجه، بل راية تعلن عن كبرياء الإنسان، وتُجسّد صموده.
هذا عن الجبهة، فماذا عن الغاسقة؟، أوضح وأطهر مثال، لخطورة الغاسق، قوله تعالى “وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ” [سورة الفلق: 3]، وفيه استعاذة من الشرور، فالغاسق، هو الليل إذا اشتدت ظلمته، إذا وقب، أي إذا دخل وغطى بظلامه، أو إذا دخلت فيه الأشياء واختبأت، وفيه إشارة إلى الشرور التي تكثر وتنتشر في الليل، مثل السحر، واللصوص، والوحوش، وأذى الناس، وغير ذلك.
في زمن الانحناء، تظل الجباه المصرية مشرئبة بشموخٍ لا تعرف الذل، ومرفوعة لا تنكسر إلا سُجودًا لخالقها، في أرضٍ باركها الله، واختصها بالمواقف الكبرى، وابتلاها كما يشاء، كانت مصر ولا تزال شوكةً في حلق الباطل، وعنوانًا للكرامة والعزة والولاء.
هي ليست مجرد حدودٍ مرسومة على خريطة، بل أمةٌ ذات قلبٍ نابض، لا تُدار من الخارج، ولا تُشترى بثمن، ولا تنكسر تحت وطأة الحصار أو المؤامرات، ولأنها كذلك، كان طبيعيًا أن تتكالب عليها جبهات الظلام الغاسقة، وأن يتسابق نحوها من استبدلوا العروش بالرعاية، والسيادة بالتبعية.
الذين يتكالبون اليوم حول مصر، لا يصطفون في صفوف الحرب، بل يتمترسون خلف الأوهام، كيانات من ورق، قامت على الرمال، لا تملك من القرار إلا ما يُملى عليها، باعت أنفسها تحت رعاية الشيطان الأعظم، وأبنائه المدلَّلين في تل أبيب، والدوائر المتصهينة في العواصم الغربية.
ظنّ هؤلاء أن المال يصنع هيبة، وأن الإعلام يصوغ الحقيقة، فغاب عنهم أن مصر ليست بندقية للإيجار، ولا منصة لمن يدفع أكثر، وغفلوا عن أن المصري حين يُحاصَر، لا يركع، بل ينتفض، ولديه عزيمة، برعاية الله وحفظه، لم ولن تخور.
واليوم، يقف المصريون خلف قائدهم، الرئيس عبد الفتاح السيسي، وقفة صدقٍ لا تعرف التلوّن، وولاءٍ لا يخضع لأجندة، فهو رجل لم يُصفِّق للشرعية الزائفة، ولم يبايع إلا الحق، فبات هدفًا لكل حاقد وأجير، ولكل من اعتادوا بيع رقابهم في أسواق السلاح والكراسي.
من كل حدبٍ وصوب، تتزاحم الجبهات الغاسقة، تزعم القدرة على تطويق مصر الأبيّة، ولا تدري أنها تحاول الإمساك بالريح في قبضتها، يرسلون قوافل الغدر والخيانة من الغرب، محمّلة بالسلاح والمرتزقة، مغمّسة بالحقد والخيبة، عابرةً صحاري الكيد، إلى بوابات الوطن الصامدة، متغافلين عن مناورات جيوشهم مع جيش الصهاينة، وتقليدهم أرفع الأوسمة والنياشين، وصدق مثلنا الشعبي “ما فيش حاجة من الغرب، تُسر القلب”
وفي الجنوب، من كنا نعدّهم إخوة في الدم والمصير، يمولون الفوضى، ويزرعون الفتنة، ويشعلون النيران في خاصرة الأمن القومي المصري، في السودان والقرن الإفريقي، ويسلحون الأحباش، ويساندون الأوباش، غير آبهين إلا بأنفسهم وأسيادهم.
على حدود مصر الشرقية، حيث الأرضُ التي رُويت بدماء الأبطال، يقف العدو الصهيوني الغادر، يحتمي بجبروت قوى الاستكبار العالمي، ويتوهم أن بإمكانه فرض التهجير القسري على أهل غزة الصامدين، لكنه نسي أو تناسى، أن هذه الأرض اسمها مصر، وأن لسيناء تاريخًا لا يفرط، وسيادة لا تُمسّ، وجبهة لا تنكسر ولا تخضع.
إن مصر، بشعبها وجيشها وأجهزتها وإرادتها، لم تكن يومًا بوابةً للغزاة، ولن تكون ممرًّا لتمرير المؤامرات، ومن ظن أن سيناء قابلة للبيع أو المساومة، فليقرأ التاريخ جيدا.
بينما في الشمال، البحر الأبيض المتوسط، يمخرونه بأساطيلهم المعادية، ينشرون قواعدهم في قبرص وغيرها، في عالم تتباين فيه التحالفات، وتسود لغة المصالح، حتى لو بالتحالف مع الشيطان، فمن كان حليفك اليوم، يعاديك بالليل.
والأدهى، والأشد غصّة، أن كثيرًا من هذا الخذلان يتم بأيدي دول يجمعنا بها التاريخ والدم واللسان، فإذا بها تقف في خندق العدو، تبارك، وتموّل، وتشعل الحرائق، رحم الله الآباء والأجداد، وهدى الغلمان والأحفاد، لسبيل الرشاد.
لكن فاتهم أن مصر لا تُحاصر، بل تحاصر من يحاصرها، وأن من يرفع السيف في وجهها، يُكسر على أبوابها، فلتأتِ الجبهات الغاسقة من الجهات الأربع، فهنا قلبٌ لا يَخفق إلا بالعزة، وجبهةٌ لا تنحني إلا في السجود، وراية لا تسقط ما دام في الصدر نَفَس، وفي الأرض رجال.
وليس جديدًا أن تُحاصر مصر، فقد حوصرت من قبل فصمدت، وأُغرِيت فرفضت، وكيد لها فزادها الكيد تماسُكًا، ولن يكون اليوم مختلفًا عن الأمس؛ فكل سهمٍ يُرمى في صدرها، يخلق ألف درع من حب شعبها، وألف صوت يهتف: “تحيا مصر”.
أيها السفهاء الجبناء، من الخونة والعملاء، اعلموا جيدًا أن الجباه المصرية لا تركع إلا لله، وكل من توهّم أن باستطاعته أن يُخضع هذا الوطن، تحت ضغط، أو مال، أو خديعة، سينكسر عند أول صخرة من صخور الجبهة المصرية الصلبة، وسيسقط في حفرةٍ حفرها لنفسه.
أما مصر، فهي باقية، وأما قيادتها، فماضية، وأما شعبها، فهو في رباط، وخير أجناد الأرض، إلى يوم الدين.
تحيا مصر .. شعبًا وقيادة .. والله من وراء القصد،،