اختصَّ اللواء يحيى عبد الكريم، مساعد وزير الداخلية السابق، هذا الأسبوع، بمقالٍ عن حادثة التعدي الجنسي على طفل في دمنهور، معتبرًا إيّاها ليست مجرد جريمة جنائية عابرة، بل جرس إنذار يدوي في وجه مجتمع بأكمله..
وفيما يلي نص المقال:
في وطنٍ ظلَّ دومًا يفاخر بوحدة نسيجه الوطني، ويستنشق عبق التعايش الممتد عبر قرون بين مسلميه ومسيحييه، تأتي حادثة التعدي الجنسي على طفل دمنهور، كجريمةٍ مروعةٍ تهز الضمير الإنساني، وتدق ناقوس الخطر حول احتمالية انزلاق المشهد العام إلى مستنقع الفتنة الطائفية، إذا ما استُغلت الجريمة في غير موضعها.
إن هذه الواقعة، بكل ما تحمله من بشاعة ووجع، لا تمثل ديانة ولا طائفة، بل تمثل انحدارًا أخلاقيًّا يجب أن يُواجه بالعدل لا بالتحريض، وبسيادة القانون لا بخطابات الكراهية.
إن صمت المجتمع عن مثل هذه الأفعال، أو الانسياق وراء الأصوات التي تسعى إلى تحويلها من جريمة فردية إلى صراع طائفي، يشكل تهديدًا خطيرًا لوحدة الوطن وسلمه الأهلي، فضلً عن تمزيق الصف، وخلخلة ثقة المجتمع في معنى العدالة، ومعايير تطبيقها.
لقد أسفرت ملابسات الواقعة عن حجم الفاجعة، حيث تم الاعتداء على طفل بريء لا حول له ولا قوة، في فعل يتجرد من كل معاني الإنسانية والدين والضمير، ولعل الأخطر من الجريمة نفسها، هو محاولة جرّها إلى ساحة التجييش الطائفي، وكأن الوطن لا تكفيه جراحه، ومن ثم لا بد أن نعلنها بوضوح، الجريمة فردية، ولا يجب أن يُحمل وزرها، ويتحمل تبعاتها مجتمعٌ بأكمله، ولا طائفة بريئة منها، براءة الذئب من دم ابن يعقوب.
ومن هنا وجب القول صراحة ودون مواربة، لم تكن جريمة دمنهور بكل فظاعتها، إلا شرارة سرعان ما حاول البعض تحويلها إلى لهب.
فقد هرع المتأسلمون على الفور إلى استغلال الواقعة لتأجيج الكراهية، مستخدمين لغة الثأر الطائفي، ومُحمّلين طائفة بأكملها ذنب فردٍ مجرم، متناسين ما يدّعون من قيم إسلامية تدعو للعدل والرحمة.
وفي المقابل، خرجت بعض الأصوات من أقباط المهجر، المعروفة بتوجهاتها التصادمية تجاه الدولة والمجتمع الإسلامي، لتصور القضية كاضطهاد منظم ضد المسيحيين، ملوّحة بملفات دولية، ومجالس حقوق الإنسان، في مشهد يبدو أقرب إلى الاستثمار السياسي منه إلى التعاطف الحقيقي مع الضحية.
بينما يجد المتشددون من كلا الطرفين، في مثل هذه الحوادث مادة جاهزة لإحياء خطابات الكراهية القديمة، وتأليب العوام، وتوسيع الشروخ النفسية والاجتماعية، لتحقيق نفوذ وهمي داخل طوائفهم.
والحقيقة أن أصحاب المصالح والمنتفعين، لا يرون في الطفل المعتدى عليه إنسانًا، بل ورقة ضغط، ولا في الجريمة مأساة، بل فرصة جديدة لصناعة الضجيج على حساب الاستقرار الوطني.
وما يجمع هؤلاء جميعًا هو استغلال الألم، والمتاجرة بالخوف، وتحويل الجريمة الفردية إلى صراع جماعي، وهو أخطر ما يمكن أن يهدد سلامة المجتمع المصري الذي يواجه بالفعل تحديات اقتصادية وسياسية معقدة.
تأسيسًا على ما سبق، يقع على عاتق مؤسسات الدولة، وعلى رأسها السلطة القضائية والأجهزة الأمنية، في مثل تلك الحوادث والأحداث، أن تُعلي كلمة القانون فوق كل صوت، فالعدالة ليست فقط في إنزال العقوبة، بل في سرعتها، وشفافيتها، ونزاهتها، وأن تُظهر للمواطنين جميعًا أن دماء أطفالهم وأعراضهم لا تُمسّ بلا حساب، ولا يُتاح لأي مغرض أن يحتمي وراء طائفته أو مكانته.
ولا مراء، في أن المسئولية تستطيل أيضًا إلى الإعلام، والمؤسسات الدينية، وقادة الرأي، فالكلمة في مثل هذه اللحظات، يمكن أن تكون وقودًا للفتنة، أو جسرًا للوعي، يجب أن يُرفع الصوت عاليًا ضد الجريمة، لا ضد طائفة، وضد المجرم، لا ضد مجموعة بشرية لا ذنب لها، فالتحريض، حتى لو كان مغلفًا بالغضب، لا يخدم العدالة، بل يفتح بابًا للفوضى والانقسام.
إن حماية نسيج الوطن، في مثل هذه اللحظات الدقيقة، ليست شعارًا يُرفع، بل موقف يُتخذ، ومسؤولية يُحملها كل فرد، فإما أن نكون دعاة عدالة وإنصاف، أو شهود زور على لحظةٍ قد تنكسر فيها مصر، لا قدر الله، على يد جريمة لا يجب أن تُمنح أكثر من حقيقتها.
الجريمة شنعاء استوجبت القصاص، لا الفتنة، وليبقى صوت القانون أعلى من أي صراخ، وصوت الضمير الوطني أقوى من أي تحريض.
بقي أن نشير أن الفتن الطائفية المقيتة، يلزم مواجهتها، مواجهة فاعلة رادعة توعوية، وأن سبل المواجهة، وحسبما نرى، يمكن أن تكون من خلال عدة محاور، تضطلع بها جهات مختلفة، نوجزها فيما يلي:
المحور الأول: على مستوى الدولة:
اضطلاع جهات التدقيق والتحقيق، تطبيق القانون بحزم وشفافية، بلا تهاون أو مواربة في قضايا حساسة تمس الأمن المجتمعي، مع سرعة تقديم الجناة للعدالة دون اعتبار للانتماء الديني أو الاجتماعي، فالعدالة المتراخية تُغذي الشعور بالظلم، وإذكاء التعصب الطائفي.
إنشاء مرصد وطني لرصد التحريض الطائفي، تكون مهمته تتبع الخطابات الإعلامية، والدينية، والاجتماعية، التي تحرّض على الكراهية، واتخاذ خطوات قانونية وتوعوية ضدها.
المحور الثاني: على مستوى الإعلام:
إعطاء مساحة للرموز المعتدلة، من خلال دعم الأصوات التي تدعو للوحدة الوطنية، وتهميش من يتاجرون بالكراهية تحت أي مسمى، سواء ديني أم حقوقي.
تفعيل “الميثاق الإعلامي للطوارئ الطائفية، وهو ميثاق يُفعّل عند وقوع أحداث محتملة لإشعال الفتنة، يُلزم الإعلام بالاحتكام إلى مصادر موثوقة، وتجنّب العناوين المثيرة.
المحور الثالث: على مستوى المؤسسات الدينية:
ضرورة تضمين الخطاب الديني من الأزهر والكنيسة، رسائل تدعو للتسامح، وتحذر من استغلال الدين في تأجيج الصراعات.
تنسيق لقاءات شعبية دورية بين رجال الدين من الطرفين، تقام في القرى والمدن، ويُفتح فيها الحوار مع الناس مباشرة حول قيم العيش المشترك.
المحور الرابع: على مستوى المجتمع المدني والتعليم:
تضمين المناهج تعليمية، موضوعات حول مفاهيم المواطنة، وقبول الآخر، تبدأ من المرحلة الابتدائية، وتغرس قيم التعددية، وقبول الاختلاف، والهوية الوطنية الجامعة.
دعم مبادرات شبابية مشتركة، من خلال إقامة أنشطة رياضية وفنية، يشارك فيها شباب من المسلمين والمسيحيين معًا، لتكوين علاقات واقعية وكسر الصور النمطية.
المحور الخامس: على مستوى المواطن العادي:
عدم الانسياق خلف الشائعات، فيجب أن يكون كل مواطن خط الدفاع الرئيس عن الوحدة الوطنية، بتنمية الوعي الذاتي، القادر على الفرز والتجنيب للأخبار المثيرة للطائفية، وترويجها دون تحقق.
التبليغ عن المحرضين في شتى المواقع، ومنها مواقع التواصل الاجتماعي، وعدم التساهل مع أي خطاب كراهية، ووأد محاولات نشر التفرقة والتحريض، والتعاون التام مه الجهات المعنية في الدولة، في هذا الصدد.
بكل وعي ومسؤولية، لا بد أن ندرك أن الفتنة الطائفية ليست سوى أداة خبيثة يستخدمها أعداء الوطن للنيل من وحدتنا وزعزعة استقرارنا، فمصر التي قامت حضارتها على التنوع والتسامح، لا يمكن أن تنكسر إلا إذا انكسر وعي أبنائها.
إن ما يُحاك في الخفاء تحت ستار الدين أو الطائفة، ليس سوى محاولة لتفكيك نسيج وطني متماسك عمره آلاف السنين، ما يعني أن اليقظة والوعي، ونبذ خطاب الكراهية، وتعزيز روح المواطنة، ليست مجرد خيارات، بل واجب وطني على كل مصري حريص على مستقبل بلده.
والله من وراء القصد … تحيا مصر، شعبًا وقيادة،،
لواء/ يحيى عبد الكريم